روائع مختارة | قطوف إيمانية | الرقائق (قوت القلوب) | ومات في لحظة ضعف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > الرقائق (قوت القلوب) > ومات في لحظة ضعف


  ومات في لحظة ضعف
     عدد مرات المشاهدة: 2280        عدد مرات الإرسال: 0

  جمعتنا براءة الأطفال، لعبنا وركضنا بين أزقة الحارة وشوارعها الفسيحة...أجسادنا تنمو وحبنا ينمو...كبرنا فجمعنا اللهو والطيش والعبث... خضنا في المعاصي والآثام...غاب الناصح والرقيب فتاهت عقولنا في أودية الضياع والغفلة، وهجم الفراغ والصحة علينا فسقطت أجسادنا في أوحال الفساد...قلوبنا تعلقت بغير الله، فهذا ممثل بارع، وتلك فنانة فاتنة، هذا لاعب مشهور، وتلك نجمة إغراء عالمية...يجمعنا فيلم ساقط، ومباراة رياضية، أو جولة في الأسواق الكبرى بحثاً عن الفارغات مثلنا، نمضي ساعات طوال في الغيبة والنميمة والكذب على بعضنا البعض...فقائل يقول: اتصلت على صديقتي وتواعدت معها...وآخر يقول: لقد خرجت مع صديقتي...وثالث يقول: لقد أوقعت بالضحية الألف...سرنا في طريق مظلم لكن النور يتسلل إليه بين فترة وأخرى، نسمع صوت الأذان، نصلي أحياناً فنسمع آيات القرآن، ويأتي رمضان فنمتنع ساعات عن المعاصي، ربما نخرج إلى مكة، فنؤدي العمرة بأجسادنا وألسنتنا التي تردد كالببغاء خلف مطوفٍ يدعو بنا أدعية الحج فيدخلها في العمرة، وربما دعا علينا ونحن نؤمن، لم نشعر خلالها بطعم الطاعة، وربما نعود وقد عصينا الله في الحرم... أحدنا وكان أقربهم مني مودة، كان محبوباً من الجميع، لطيف المعشر، دائم التبسم، خفيف الظل، صاحب طرفة، إنجرف في طريق مظلم، قاده إليه خاله الذي يكبره بسنواتً قليلة... بدأ بشرب الخمر، فإبتعدنا عنه وتخلينا عنه، لم نعد نتحدث إليه....تعرف على المخدرات بأنواعها المختلفة، خمر ثم حشيش، تعاطى الهيروين بالشم، ثم بدأ يستخدم الحقن، تعرف على مروجي المخدرات، روج لهم، تغير حاله، غابت بسمته، وغارت وجنتيه، أصبح هزيلاً ضعيفاً، نبذه الجميع، وكان قلبي يتقطع حسرة عليه...غضب عليه أبوه، عاش حياة التشرد، يسير في الطريق تحسبه مريض قد هده المرض، أو شيخ كبير تخلى عنه أبناؤه، يأوي إلى الأماكن المظلمة، والأزقة المنزوية، نظراته شاردة، حركاته غير متزنة....أنهكه المخدر، وقضى على نبض الحياة في عروقه، يمكث يومه غائباً عن الوعي، وعندما يفيق يبحث عن المخدر ليغيب مرة أخرى...قسا قلبه على والديه، وقسا على نفسه، لم يدع موضع أصبع إلا وبه آثار المخدر، حتى رقبته لم تسلم منها، المروجون لم يعودوا يثقون فيه فكلما إستلم بضاعة إستخدمها ولم يوصلها، إمتنعوا عن منحه الجرعات التي تهدأ ثورة الألم في جسده، لم يوجد لديه مال أضطر إلى أن يسرق ليوفره، قبضت عليه الشرطة، ألقي به في السجن، نسيته ونسيه أهل الحارة...

خرج من السجن، ظل شهراً في المنزل لا أحد يدري عنه، أخبرني أحد الأصدقاء، ذهبت إليه، فرح بي وفرح أكثر عندما رأى لحيتي وقد أطلقتها، وثوبي قد قصرته، أنشرح صدره لي....حدثني حديث التوبة، اغرورقت عيناه بالدموع، انبعثت من صدره كلمات -خلاص.. تعبت ولن أعود للمخدرات- شعرت بصدقها، بل شعرت أن أنفاسه إنطلقت معها فلمست أثرها على وجهي، أخذت بيده إلى المسجد، خرج معي، شعرت بالسعادة تستولي على كياني... حدثني عن تلك اللحظات السوداء القاتمة التي كان يصارع فيها الموت مع المخدر، ماتت كل العروق في جسده، لم يبق مكان يحقن فيه الإبرة إلا صفحة عنقه، لقد كان الله يحفظه وهو يعصيه... الحمدلله لقد عاد صديق الطفولة إلى الحياة من جديد،هكذا قلت لنفسي... غبت عن صديقي عدة أيام حال بيني وبينه ظروف الحياة التي نعيشها، وذات يوم رأيته يمشي مع رجلٍ مشبوه، هالني منظره، قد كسته المعاصي ظلمة ذهبت بنور الطاعة التي رأيتها منه قبل أيام...أسرعت المشي، التففت من ورائه، وعدت أسير بخطواتٍ بطيئة في مواجهته، وقفت وجهاً لوجه أمامه، وقف هو أما مرافقه فقد أسرع الخطى إلى نهاية الشارع...أمسكت بكتفيه، هززته بقوة، لماذا؟ ألم تعاهدني على التوبة؟ ألا تخاف أن تموت بسبب المخدرات فيختم لك بسوء عمل، لماذا عدت؟ لماذا عدت؟...

سكت لحظة ثم قال: لقد سئمت هذه الحياة، لا مال، لا عمل، الفراغ قاتل، أريد أن أعيش، أنت لديك أسرة وعمل ومال، أنا ضائع.. ضائع.. ضائع، أتفهم ماذا أعني بهذه الكلمة، لا يوجد طريق أمشي فيه إلا هذا...أطرقت برأسي إلى الأرض، ناداه رفقاء السوء، رفعت رأسي، ونظر هو إليهم، ثم نظر إليّ في إنكسار وإستحياء، إستمروا ينادونه ويستعجلونه، وهو ينظر إليهم مرة وينظر إلي مرة، وقفنا في منتصف الطريق، في أخر الشارع رفقاء السوء ينادونه، وأنا أمسك بيده أدفعه نحو الإتجاه الآخر لم يستجب معي، أصوات رفقائه جعلتني أتضجر، نظرت إليهم بغضب، قلت وأنا أنظر إليه: إن لم يذهبوا فسأذهب إليهم وأضربهم، نظر إليّ وقال: أنت صديقي وهم أصدقائي لا شأن لك بهم...نظرت إليه بغضب، صرخت به، حذرته وهددته، قلت له: إذا ذهبت معهم فلن ترى وجهي بعد اليوم، ترك يدي ومضى نحوهم وقبل أن تسقط يدي، همس لي: سأعود...

ذهب ولم يعد، أكملت طريقي إلى البيت أحمل بين جنبي حزنا كبيراً، وجرحا عميقا، ودمعة ساخنة أحرقتني، بثثت أحزاني لزوجتي التي راحت تصبرني، وفجأة رن جرس الباب، أسرعت نحوه، فتحته فوجدته يقف أمامي، قد عاد إلى عينيه شيء من بريق التوبة التي فرحت بها قبل أيام، أدخلته المنزل، دخل في نوبة بكاءٍ رهيبة، نطق بكلمات ممزوجة بشهقات تتصاعد من صدره، لقد تخلى عني الجميع، لم يساعدني أحد، أنا أموت في كل لحظة، رفقاء السوء لم يتركوني، أنت تركتني، لقد عرضوا أن يساعدوني...صرخت به: هم يريدون تدميرك، هم يريدون أن يعيدوك إلى طريق المخدرات....رفع بصره نحوي وقال: والله إني أحبك، ولا أرضى أن أغضبك، تعبت، تعبت من حياتي، الهموم والغموم تحاصرني...فقلت: الهم والضيق الذي تجده في صدرك بسبب المعاصي والبعد عن الله، قرأت عليه قول الله عز وجل: {ومن أعرض عن ذكري فإن له...} وهنا توقفت، سمعته يقرأ معي الآية أصابني الذهول فسكت فأكمل الآية، عدت وأكملت الآية معه، وبعدها قال: خلاص أنا أعلن التوبة بين يديك، إن شاء الله لن أعود إليها، لا تتخلى عني، أحضرت له مصحفاً، عاهدني على هذا المصحف، وضع يده وعاهدني، منحته المصحف هدية وكان أغلى هدية في حياتي، منحته لصديق الطفولة والشباب، إرتفع الآذان، هيا إلى الصلاة، قال: أريد أن أعود إلى البيت حتى أغير ملابسي...سألته: كيف عدت إليها هذه المرة...قال: شعرت بالضيق والوحدة فخرجت إلى الشارع، جلست على الرصيف فمر بي أحدهم ورمى لي أبرتين وقال هذه تكفيك يومين...قلت: كم مرة إستخدمتها...قال: لا تخاف دمي لا زال نقياً، أقدر أتوقف عنها...عاد وجه صاحبي يشرق من جديد، حافظ على الصلاة، إبتعد عن المروجين، لكنهم لم ييأسوا، حاولوا أن يصلوا إليه، تعرضوا للطرد من أبيه، ومنه في بعض الأحيان، صار يرافقه خاله الآخر والذي كان مستقيماً أثناء خروجه، عاد كما كان محبوباً من الجميع... إستمرت المحاولات من رفقاء السوء حتى يعود، أجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم، أغروه بالمال، ذكروه بالماضي، تعالى لتقضي على الفراغ الذي قتلك، لحظات من السعادة تنسى فيها همومك، وقع الكلمات في سمعه قضت على قلبه الذي إستيقظ حديثاً من غفلته، ولحظات الفراغ أطفأت نور الإيمان الذي أضاء صدره، لم تسعفه لحظات الإيمان التي عاشها ليصمد أمام المغريات، والجرعات الإيمانية التي تجرعها عجزت عن تقف أمام سيل الفتن الذي جاءه من كل مكان وفي كل زمان، فكر حتى تعب من التفكير.... وفي لحظة ضعف، سار معهم، وهناك بين قرناء السوء كانت النهاية الحزينة لحياة كئيبة لم تذق من السعادة إلا أياماً معدودة، أمسك حقنة الهيروين بيده اليمنى وغرزها في يده اليسرى، فجرى السم ليقضي على قلبه، ألقى بجسده على الأرض، لم يتنبهوا له، ظنوه نائماً، ولكن النوم طال، حركوه قلبوه لم يفق، لقد مات، لقد مات من أول جرعة بعد الإقلاع....وصل الخبر إلى سمعي فكانت الفاجعة التي أجرت دمعي، أسرعت نحو خاله، سألته: ما الذي حدث؟ حدثني عنه وهو يبكي، لا أدري إستسلم في لحظة ضعف لمحاولاتهم المستمرة وكانت النهاية الأليمة، مات بحقنة مخدر زائدة، لم يتحملها قلبه الضعيف...شعرت بالندم فبكيت ورددت اللهم يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك...ليته لم يعد ليته بقي بعيداً، يارب إغفر له وإرحمه يارب إغفر له وإرحمه...

=قصة من الواقع=

الكاتب: عبدالله الهندي.

المصدر: موقع طريق التوبة.